فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {ألم تر} الرؤية قلبية والاستفهام للتعجيب أي ألم تعلم وتوقن.
2- {يحيي ويميت} التعبير بالمضارع يفيد التجدد والاستمرار، والصيغة تفيد القصر {ربي الذي يحيي ويميت} لأن المبتدأ والخبر وردا معرفتين والمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وبين كلمتي {يحيي} و{يميت} طباق وهو من المحسنات البديعية وكذلك بين لفظ المشرق والمغرب.
3- {فبهت الذي كفر} التعبير بالنص السامي يشعر بالعلة، وأن سبب الحيرة هو كفره، ولو قال: فبهت الكافر لما أفاد ذلك المعنى الدقيق.
4- {أني يحيي هذه الله بعد موتها} موت القرية هو موت السكان فهو من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال، ويسمى المجاز المرسل.
5- {ثم نكسوها لحما} نسترها به كما يستر الجسد باللباس، قال أبو حيان: الكسوة حقيقة هي ما وراء الجسد من الثياب، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى العظم وهي استعارة في غاية الحسن. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

الجمهور على سكون واو أَوْ وهي هنا للتفضيل، وقيل: للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين {أَوَ} بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام.
وفي قوله: {كَالَّذِي} أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84- 85] ثم قال: {مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86- 87]. فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه: لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر: الوافر:
مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ** فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا

فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية:
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجودًا في لسانهم؛ كقوله: الطويل:
تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ ** بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ

وقول الأخر في هذين البيتين: الوافر:
أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ** وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ

وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ ** بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ

فإنَّ معنى الأول: ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه وَلاَ بِحَقَلَّد، ومعنى الثاني: أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه وَلاَ مُتَدَارِكٍ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمار فعل، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ: أو كالَّذِي: معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي، فحذف لدلالة {أَلَمْ تَرَ} عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى.
الثالث: أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقول الآخر: السريع أو الرجز:
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ

والتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة.
والرابع: أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين: وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.
منها: معادلتها في الفاعلية بمِثْل في قوله: الطويل:
وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ** ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ

ومنها دخول حروف الجر، والإسناد إليها. وتقدَّم الكلام في اشتقاق القرية.
قوله: {وهي خَاوِيَةٌ} هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون حالًا من فاعل مَرَّ والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه.
الثاني: أنها حالٌ من {قرية} إمَّا على جعل {عَلَى عُرُوشِهَا} صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقًا؛ وهو ضعيف عند سيبويه.
الثالث: أنها حالٌ من {عُرُوشِهَا} مقدَّمةٌ عليه، تقديره: مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ.
الرابع: أن تكون حالًا من هَا المضاف إليها عُرُوش قال أبو البقاء: والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه انتهى. والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ العُرُوشَ بعض القرية، فهو قريب من قوله تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47].
الخامس: أن تكون الجملة صفةً لقرية، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] فجعل: {وَلَهَا كِتَابٌ} صفةً، قال: وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذانًا بإلصاق الصفة بالموصوف وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه، وفي ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً، بالواقعة حالًا، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية، على جواز جعل {عَلَى عُرُوشِهَا} بدلًا من {قَرْيَةٍ} على إعادة حرف الجرِّ، ورتَّب جعل {وَهِي خَاوِيَةٌ} حالًا من العروش، أو من القرية، أو من ها المضاف إليها، على جعل {عَلَى عُرُوشِهَا} صفةٌ للقرية، وهذا نصُّه، قد ذكرته؛ ليتضح لك، فإنه قال: وقد قيل: هو بدلٌ من القرية تقديره: مرَّ على قريةٍ على عروشها، أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل، ويجوز أن يكون {عَلَى عُرُوشِهَا} على هذا القول صفةً للقرية، لا بدلًا، تقديره: على قرية ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا لا يجوز أن تكون {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} حالًا من العروش وأن تكون حالًا من القرية؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون حالًا من هَا المضاف إليه، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى.
قوله: {على عُرُوشِهَا} فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون بدلًا من {قرية} بإعادة العامل.
الثاني: أن يكون صفةً ل {قَرْيَةٍ} كما تقدَّم فعلى الأول: يتعلَّق ب {مَرَّ}؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوفٍ، أي: ساقطةٍ على عروشها.
الثالث: أن يتعلَّق بنفس خاوية، إذا فسَّرنا {خَاوِيَةٌ} بمعنى متهدِّمة ساقطة.
الرابع: أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوف قالوا: هو لفظ ثَابِتَةٌ؛ لأنهم فسَّروا خَاوِيَةٌ بمعنى: خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ، ولا يتبادر إليه الذهن، وقيل: عَلَى بمعنى مَعَ، أي: مع عروشها، قالوا: وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية.
وقيل: عَلَى بمعنى عن أي: خاويةٌ عن عروشها، جعل عَلَى بمعنى عن كقوله: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي: عنهم.
والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواءً بالمد، وخويًّا، وخويت- أيضًا- بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر، وخَوْيًا، والخَوَى: الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد. والخويُّ على فعيل: البطن السَّهل من الأرض، وخوَّى البعير: جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك: الرجز:
خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ ** كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ

ومنه الحديث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ خَوَّى» أي: خلا عن عضده، وجنبيه، وبطنه، وفخذيه، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت.
والعُرُوشُ: جمع عرش، وهو سقف البيت، وكذلك كلُّ ما هُيِّئ ليستظلَّ به، وقيل: هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك: الكامل:
إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ** بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ

وقوله: {أنى يُحْيِي هذه الله} في أَنَّى وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى متى.
قال أبو البقاء رحمه الله: فَعَلى هذا تكون ظرفًا.
والثاني: أنَّها بمعنى كيف.
قال أبو البقاء رحمه الله: فيكون مَوْضِعُها حالًا من هذه، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهرُ أنها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين: فالعاملُ فيها يُحْيِي، وبعد أيضًا معمول له. والإحياء، والإماتة: مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافًا، أي: أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية، وجثثهم المتمزقة، دلَّ على ذلك السياق.
قوله: {مِائَةَ عَامٍ} قال أبو البقاء رحمه الله: {مائَة عامٍ} ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مائة عام، ولا يجوز أن يكون ظرفًا على ظاهر اللفظ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ، ويجوز أن يكون ظرفًا لفعل محذوف، تقديره: {فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام} ويدلُّ على ذلك قوله: {كَمْ لَبِثْتَ}، ولا حاجة إلى هذين التأويلين، بل المعنى جعله ميِّتًا مائة عام.
ومِائة عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامها محذوفة، وهي ياء، يدلُّ على ذلك قولهم: أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ، أي: صيَّرتها مائة، فوزنها فعة ويجمع على مِئَات، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل: الطويل:
ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا ** رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ

كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا: سنون: في سنة.
والعام: مدَّة من الزمان معلومةٌ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير: عويم، وفي التكسير: أَعْوَام.
وقال النقَّاش: هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك، والعوم: هو السبح؛ وقال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال.
قوله: {كَمْ} منصوبٌ على الظرف، ومميِّزها محذوفٌ تقديره: كم يومًا، أو وقتًا.
والناصب له {لَبِثْتَ}، والجملة في محلِّ نصب بالقول، والظاهر أنَّ {أَوْ} في قوله: {يومًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بمعنى {بَلْ} للإضراب، وهو قول ثابت، وقيل: هي للشك.
قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال، وزعم بعضهم: أنَّ المضارع المنفيَّ بلم إذا وقع حالًا، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد: الطويل:
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ ** وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ

وزعم آخرون: أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالًا بما، ولمَّا. وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن، قال تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174]، وقال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] فجاء النفي بلم مع الواو ودونها.
فإن قيل: قد تقدَّم شيئان، وهما {طَعَامِكَ وشَرَابِكَ} ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفًا، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدهما: أنها لمَّا كانا متلازمين، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه قال: فانظر إلى غذائك.
الثاني: أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه، وإلى شرابك لم يتسنَّه، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه {فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه}، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهًا بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه، فعدم تغيُّر الطعام أولى، قال معناه أبو البقاء.
الثالث: أنه أفرد في موضع التثنية، قاله- أيضًا- أبو البقاء؛ وأنشد: الكامل:
فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ** أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ

وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزة، والكسائي: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} بالهاءِ وقفًا، وبحذفها وصلًا، والباقون: بإثباتها في الحالين. فأمَّا قراءتهما، فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ: فالهاءُ تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكون- أيضًا- للسكت، وإنما أُثبتت وصلًا إِجراءً للوصل مجرى الوقف، وهو في القرآن كثيرٌ، سيمرُّ بك منه مواضع فعلى هذا يكون أصل الكلمة: إِمَّا مشتقًا من لفظ السَّنَةِ على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا: سُنَيَّة وَسَنَوات؛ وعلى هذه اللغة قالوا: سَانَيْتُ أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر: الكامل:
............................. ** وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ

ويقولون في جمعها: سنوات فقلبوا الواو تاءً، والأصلُ: أَسْنُووا، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزمًا.
وإما من لفظ {مَسْنُون} وهو المتغيرُ، ومنه {حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28]، والأصلُ: يتَسَنَّنُ، بثلاثٍ نونات، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن: تظنَّى، وفي قصَّصت أظفاري: قصَّيتُ، ثم أبدلنا الياء ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حُذِفت جزمًا، قاله أبو عمرو، وخطَّأَه الزجاج، قال: لأنَّ المسنونَ: المصبوبُ على سنن الطريق.
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال: هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ أي: تغيَّر، وهذا وإِنْ كان صحيحًا معنًى، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقًا، إذ لو كان مشتقًا من أَسِنَ الماءُ لكان ينبغي حين منه تفعَّل، أَنْ يقال تأسَّنَ. ويمكن أَنْ يُجاب عنه: أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها- وهي الهمزة- إلى موضع لامها، فبقي: يَتَسَنَّأ، بالهمزة آخرًا، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفًا، كقولهم في قرأ: قَرَا، وفي استهزأ: اسْتَهْزا ثم حُذفت جزمًا.
والوجه الثاني: أن تكون الهاءُ أصلًا بنفسها، ويكونُ مشتقًا من لفظ سَنَة أيضًا، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً، وهم الحجازيون، والأصلُ: سُنَيْهة، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير، قالوا: سُنَيْهةٌ، وسُنَيْهَاتٌ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم:
وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ ** وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ

ومعنى {لم يَتَسَنَّهْ} على قولنا: إِنَّهُ من لفظ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِهِ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه: مِنْ قولك: أَسْنَى يُسْنِي، إذا مَضَتْ عليه سِنُون؛ لأنه يصير المعنى: لم تمضِ عليه سِنُون، وهذا يخالفه الحِسُّ، والواقع.
وقرأ أُبَيّ؛ {لَمْ يَسَّنَّهْ} بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ، والأَصْلُ: {لم يَتَسَنَّهْ}.
كما قُرِئ: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8]، والأصل: يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم، وقرأ طلحة بن مصرفٍ: {لِمِئَةِ سَنَةٍ}. قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديره: ولنجعلك فعلنا ذلك.
الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره: فعلنا ذلك، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك.
الثالث: أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها، أي: وانظر إلى حِمارِك، لنجعلَكَ.
قال الفرَّاء: وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ، كان النظرُ إلى الحمار شرطًا، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً} كان المعنى: ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا، من الإماتة، والإحياء. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، كما زعم بعضهم؛ فقال: إن قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} مؤخر بعد قوله تعالى: {وانظر إِلَى العظام}، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ. وآية مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى: التصيير. ولِلنَّاسِ صفةٌ لآيةٍ، وأَلْ في الناس، قيل: للعهدِ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ، وقيل: للجنس، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم.
قوله: كَيْفَ منصوبٌ نصبَ الأَحوال، والعاملُ فيها {نُنْشِزُها} وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في {نُنْشِزُها}، ولا يعملُ في هذا الحالِ انظُرْ إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام، فلا يعملُ فيه ما قبله، هذا هو القولُ في هذه المسألة، ونظائرها.
وقال أبو البقاء: {كيف نُنْشِزُها} في موضِعِ الحالِ من العِظَامِ، والعاملُ في كيف نُنْشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها انظُرْ لأنَّ هذه جملة استفهام، والاستفهامُ لا يقعُ حالًا، وإنما الذي يقعُ حالًا كَيْفَ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ، نحو: كيف ضَرَبْتَ زيدًا؛ أقائمًا أم قاعدًا؟
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة، وأمثالها: أَنْ تكونَ جملة: {كَيْفَ نُنْشِزُها} بدلًا مِنَ {العِظَامِ} فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ، وذلك أنَّ نظر البصرية تتعدَّى بإِلَى، ويجوزُ فيها التعليقُ، كقوله تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [الإسراء: 21] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به. ولابد مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة، والتقدير: إلى حال العظام، ونظيرُهُ قولهم: عَرفْتُ زيدًا: أبو مَنْ هُوَ؟ فأَبُو مَنْ هو بدلٌ من زَيْدًا، على حذفٍ تقديرُهُ: عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ. والاستفهامُ في بابِ التعليقِ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقًا عليه، حكُم اللفظِ دونَ المعنى، وهو نظيرُ أي في الاختصاص، نحو: اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه، وليس معناه عليه.
قوله: لَحْمًا مفعولٌ ثانٍ لِ نَكْسُوها وهو من باب أَعْطَى، وهذا من الاستعارة، ومثله قول لبيدٍ: البسيط:
الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي ** حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا

قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ} في فاعل تَبيَّن قولان:
أحدهما: مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها، وقدَّره الزمخشريُّ: فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني.
والثاني:- وبه بدأ الزمخشري-: أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ، يعني أن تَبَيَّن يطلُبُ فاعلًا، وأَعْلَمُ يطلبُ مفعولًا، و{أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} يصلُح أَنْ يكونَ فاعلًا لتبيَّن، ومفعولًا لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع، وهذا نصُّه، قال: وفَاعِلُ تبيَّن مضمرٌ تقديره: فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ على كل شيء قديرٌ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم: ضَرَبَنِي، وضَرَبْتُ زَيْدًا فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني، وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلًا، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول، فكأنه قال: فلمَّا تبيَّن له، قال أعلمه أن الله. ومثله في إعمال الثاني: {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] {هَاؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] لما ذكرت.
قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} الجمهورُ على: قال مبنيًّا للفاعلِ. وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي: اعْلَمْ أمرًا من عَلِمَ قولان:
أظهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك، أي: قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ.
الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي، فخاطبها؛ ومنه: البسيط:
وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ

وقوله: المتقارب:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ

يعني نفسه، قال أبو البقاء رحمه الله: كما تقول لنفسك: اعلم يا عبد الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ يعني: كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطبًا يخاطِبُه.
وأمَّا على قراءةِ أَعْلَمُ مضارعًا للمتكلم وهي قراة الجمهور ففاعل قال ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلمُ أنا. وقرأ الأَعمشُ: {قِيل} مبنيًّا للمفعولِ. والقائمُ مقام الفاعل: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة. و{أَنَّ الله} في محلّ نصب، سادَّةً مسد المفعولين، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف. اهـ.